كان "الموت الأسود" من أحلك الفترات في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، حيث قضى على ما لا يقل عن 25 مليون شخص في خمس سنوات فقط. لكن المرض لم يتوقف عند هذا الحد؛ فقد تكيف ليصبح أقل فتكًا وأكثر انتشارًا لقرون، والباحثون يعتقدون أنهم اكتشفوا السر.
ثلاث موجات كبرى للطاعون
تسبب بكتيريا **اليرسينيا الطاعونية (Yersinia pestis)** هذا المرض، وهي منتشرة بين البشر منذ ما لا يقل عن 5000 عام. أدى هذا العامل الممرض إلى ثلاثة أوبئة كبرى منذ القرن الأول الميلادي، ورغم أن سنواته الأكثر فتكًا تبدو وراءنا، إلا أن الطاعون لم يختفِ تمامًا. لا تزال الحالات تظهر عدة مرات في السنة في آسيا وأمريكا الجنوبية والولايات المتحدة، وبشكل أكثر شيوعًا في أجزاء من إفريقيا، ويمكن علاجها بالمضادات الحيوية.
أظهر تحليل حديث لعينات قديمة وحديثة من اليرسينيا الطاعونية كيف استمر الطاعون في الانتشار بين البشر لمئات السنين بعد انحسار موجات الوباء. فبعد فترة أولية من العدوى الشديدة والوفيات السريعة — حيث كان المصابون يموتون في غضون ثلاثة أيام — أدت التغيرات في **جين واحد فقط** من البكتيريا إلى إنتاج سلالات جديدة كانت أقل فتكًا وأكثر قابلية للانتقال، وفقًا لبحث نُشر في مجلة **Science**.
على الرغم من أن هذه السلالات الضعيفة قد انقرضت في نهاية المطاف، وأن السلالة السائدة اليوم هي الأكثر فتكًا، إلا أن هذه النتائج حول التكيف التاريخي لليرسينيا الطاعونية يمكن أن توفر أدلة مهمة لمساعدة العلماء والأطباء في إدارة تفشي الطاعون في العصر الحديث.
دراسة الجينوم القديم والحديث
أكثر أشكال الطاعون شيوعًا هو **الطاعون الدبلي**، الذي يسبب تورمًا مؤلمًا في العقد الليمفاوية وينتشر بين الناس عن طريق لدغات البراغيث التي تعيش على الجرذان المصابة. أدى تفشي الطاعون الدبلي بين عامي 1347 و1352 في أوروبا إلى مقتل ما يقرب من 30% إلى 50% من سكان القارة. لكن أقدم تفشٍ معروف للطاعون الدبلي — وهو **طاعون جستنيان** — انتشر في حوض البحر الأبيض المتوسط واستمر من عام 541 إلى 544 ميلاديًا. وظهر تفشٍ آخر للطاعون في الصين في خمسينيات القرن التاسع عشر وأثار وباءً كبيرًا في عام 1894. يعتبر العلماء حالات الطاعون الحديثة جزءًا من هذا الوباء الثالث.
للدراسة الجديدة، جمع العلماء عينات قديمة من اليرسينيا الطاعونية من رفات بشرية تعود إلى حوالي 100 عام بعد ظهور وباءي الطاعون الأول والثاني، وأخذوا عينات من رفات في الدنمارك وأوروبا وروسيا. بعد إعادة بناء جينومات سلالات الطاعون هذه، قارنوها بسلالات قديمة أقدم تعود إلى بداية أوبئة الطاعون.
كما فحص الباحثون أكثر من **2700 جينوم** من عينات الطاعون الحديثة من آسيا وإفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية.
دور جين "pla" في فتك المرض
وجد الباحثون أن الجينومات المعاد بناؤها من 100 عام بعد وباءي الطاعون الأول والثاني كانت تحتوي على نسخ أقل من جين يسمى **"pla"**، والذي عُرِف منذ عقود بأنه أحد العوامل التي جعلت الطاعون شديد الفتك، وفقًا للمؤلفة المشاركة في الدراسة، **رافنيت سيدهو**.
يرمز جين "pla" لإنزيم يتفاعل مع بروتينات المضيف، "وإحدى الوظائف التي يقوم بها هي تكسير جلطات الدم"، كما قالت سيدهو. هذه القدرة تساعد اليرسينيا الطاعونية على الانتشار في العقد الليمفاوية للمضيف، حيث تتكاثر قبل مهاجمة بقية الجسم.
وعلى الرغم من أن "ليس كل وظائف هذا الجين معروفة تمامًا"، أضافت سيدهو أن دراسات سابقة ربطت جين "pla" بشدة المرض الناجم عن كل من الطاعون الدبلي والرئوي — وهو شكل ينتقل عن طريق الهواء من المرض ويؤثر على الرئتين.
لاختبار تأثير هذا الجين، قام العلماء باختبار سلالات من الطاعون الدبلي ذات نسخ منخفضة من جين "pla" على الفئران، ووجدوا أن معدلات البقاء على قيد الحياة كانت أعلى بنسبة **10 إلى 20 بالمائة** لدى هذه الفئران مقارنة بالفئران المصابة باليرسينيا الطاعونية التي تحتوي على كمية طبيعية من جين "pla". كما استغرقت سلالة الطاعون المعاد بناؤها حوالي يومين إضافيين لقتل مضيفيها.
"احتراق الوباء" والتطور الانتقائي
اقترحت النماذج الرياضية كيف يمكن أن يكون هذا قد حدث في السكان البشريين قبل قرون، مما أدى إلى **"احتراق الوباء"** بعد حوالي 100 عام من تفشي الطاعون الدبلي.
في المراحل المبكرة من الوباء، كانت العدوى سريعة، وكان الموت يأتي بسرعة لكل من الجرذان والبشر. بمرور الوقت، ومع تناقص أعداد الجرذان الكثيفة، فضلت الضغوط الانتقائية ظهور سلالة أقل فتكًا من اليرسينيا الطاعونية، مع نسخ أقل من جين "pla". كان لدى مضيفي الجرذان المصابين بهذه السلالة الجديدة وقت أطول قليلاً لحمل المرض، مما قد يمكنهم من إصابة المزيد من الجرذان — والمزيد من الناس.
في النهاية، تلاشت هذه السلالات الأضعف من المرض وانقرضت. وفي العينات الحديثة، وجد الباحثون ثلاثة أمثلة فقط من السلالات ذات جينات "pla" منخفضة، من فيتنام: واحدة من عينة بشرية واثنتان من الجرذان السوداء.
وقالت سيدهو: "لقد تمكنا من إجراء هذه الدراسة متعددة التخصصات الرائعة بين البيانات القديمة والحديثة وربط هذه الأشياء التي كانت تحدث على مدار تاريخ [الطاعون] التطوري الطويل". وأضافت: "قد يكون من المثير للاهتمام أن نرى كيف سيستمر الباحثون في المستقبل في محاولة سد الفجوة بين الوباء الثالث الحديث والوباءين القديمين الأول والثاني، لرؤية أوجه تشابه أخرى".
إحدى السمات غير العادية لأوبئة الطاعون هي استمراريتها، وفهم كيفية تغير أنماط عدوى اليرسينيا الطاعونية وبقائها على قيد الحياة بمرور الوقت يمكن أن يسلط الضوء على الأنماط التكيفية للأوبئة الحديثة مثل **كوفيد-19**.